وإذا المغتصبة سـُئـِلَت بأية شريعة جلدت؟
يمثل اضطهاد المرأة وجهاً آخراً من وجوه التمييز والامتهان الذي كانت تتعرض له الطبقات والفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً في هذه المجتمعات. ومن الجدير ذكره في هذاالسياق، بأن السبي كان شكلاً مقونناً ومشرعناً لعمليات الاغتصاب الجماعي التي رافقتالغزو البدوي لدول الجوار حيث كانت تستباح المدن أياماً طوالاً بلياليها وهذا أمرشائع ومألوف، وقد تمت ممارسته تاريخياً، من قبل فاتحين كبار، ودون التعرض لأية مساءلةقانونية بل تم تصنيفه غالباً في معايير البطولة والجهاد والغزوات، وقد كان المغتصبوالقاتل يكافئ بهتك عرض أجمل الفتيات وسفح شرفها بعد وليمة دم مقززة. ظواهر كثيرة هيالأخرى كانت من هذا القبيل، وهي إحدى أهم إفرازات الثقافة التي حملها البدو الأعرابالغزاة معهم إلى كافة الأمصار التي ابتليت بفكرهم وأصبح وضع المرأة المتردي جراء ذلكواحداً من أهم السمات التي تطبع وجه تلك الثقافة والمجتمعات.
ولعل جرائم الشرف إحدى أوجه تطبيق وممارسة السلوك البدوي وهو موجود في كل تلك الدساتير المأخوذة من فقه البدو الصحراوي وتراثهم الضحل الذي لم يكن يوماً في جانب المرأة والإنسانية المثلى، ولم يوفق البتة في إنصاف المرأة أو في ترقيتها إنسانياً أو إعطائها شيئاً من حقوقها المعترف بها دولياً، برغم كل تلك البلاغة الفقهية الكاذبة التي تحاول تجميل وتزويق وإخفاء واقع مر ومؤلم وراءها.
والشيء بالشيء يذكر، فقد طغت على السطح في الأسابيع القليلة الماضية همروجة بدوية غريبة لا تختلف كثيراً عن جرائم الشرف، بل هي إحدى إفرازاتها المباشرة، غير أن من قام بهذه الجريمة هذه المرة هم الجسم القضائي الموكول إليه، افتراضياً، تطبيق “العدالة”، هذا إذا سلمنا بوجود أي نوع من العدالة لصالح المرأة في الثقافة البدوية على الإطلاق، حيث ارتكب جريمة “شرف” قانونية عبر حكم قضائي لا يخرج في تقييمه عن جريمة شرف بشكل آخر. وبعيداً عن مضاعفات ذاك الحكم وما حظي به من اهتمام على كافة المستويات، فإنه ومن وجهة نظر أخرى، يساهم في تكريس واقع إجرامي ويضفي عليه بعداً قانونياً قدسياً وسماوياً، لن يكون، في المحصلة النهائية، سوى تشجيعاً على البغاء وممارسة الرذيلة سراً وتمادياً في نشر الاغتصاب والتعدي على الحرمات وأعراض النساء، وهو عكس ما يرمي إليه الفقه البدوي ظاهرياً وعدالته السمحاء من أن ذلك الحكم الجائر هو تطبيق للقانون واعتباره انتصاراً لعدالة السماء ومشيئتها في نشر الفضيلة عبر جلد تلك الباغية الزانية المفترية المتهمة بالخلوة مع رجال أغراب. ويمثل حكم الجلد الشرعي الصادر بحق فتاة القطيف ( لا يمثل حكم العفو الملكي الصادر لا حقاً أي فرق هنا من حيث المبدأ، فالتدخل الملكي قد لا يكون متاحاً في كل مرة وهو استثناء لا يبنى عليه قانوناً)، واحداً من العجائب والسوابق القضائية التي يجب أن تسجل في تاريخ العدالة العالمي باعتباره ثمرة فريدة من ثمرات هذه الحضارة البدوية المجيدة. فهو يحاول وبشكل مبطن وخفي أن يضع حداً لأية محاولة ادعاء
لاحقة مستقبلاً من أية مغتصبة من هذا القبيل. فلقد حاولت تلك الثقافة البدوية أن تظهر تاريخياً بمظهر العفة والنقاء والعذرية التي لا تشوبها شائبة، ومن شأن حوادث كهذه أن تفضح زيف ونفاق هذه المزاعم التي حاولت تقمصها عبر مسيرتها، لذا كان من الضروري تماماً قطع الطريق على ضحايا جديدات قد “يعكرن” وجه مجتمعات العفة والفضيلة والحياء، لتترك المجرم، بالمقابل، حراً طليقاً يبحث عن فرائس جديدة يغتصبها بحماية القانون والسماء.
وهذ الحكم لا يساعد في إحقاق الحق ولا بإنصاف المظلومات بل سيكرس الفاحشة والمنكر والجريمة ضد المرأة في كل المجتمعات التي تطاله ثقافة البدو الأعراب. ولن يكون سوى مهزلة قضائية أخرى تضاف لسلسلة المآسي القضائية التي تعيشها هذه المجتمعات منذ فجر التاريخ حيث يكافئ الجناة والمعتدون على الدوام ويتسيدون في هذه المجتمعات. ومن هنا فهذا الحكم وهو من حيث الأثر الفعلي سيشجع على البغاء والزنا والاغتصاب الخفي البعيدج عن طائلة العقاب، والتستر على جرائم اغتصاب قد تحدث في ظروف مماثلة. فقد لا تتجرأ فتيات أخريات سيتعرضن لنفس المصير على البوح أو الشكوى لا للأهل ولا للسلطات القضائية المختصة بما حدث لهن من اعتداء مخافة أن يلاقين نفس مصير فتاة القطيف. ولعمري فإن ذلك يشكل واحدة من سوابق العدالة التي لم تعرفها البشرية على مر التاريخ. وكانت المعالجات القاصرة لهذا النوع من الجرائم اجتماعياً أو قضائياً هي في غير صالح الضحية على الدوام.
فإذا اشتم الأهل رائحة أي “انحراف” لأنثى تحت سلطتهم الأبوية فإن ذلك سيعني حكماً شرعياً بموتها لا عقاب ولا مساءلة قانونية أمامه، وإذا أفلتت الضحية من حد القتل الأسري، وهذا أمر نادر، فإن القضاء سيتكفل عند ذلك بالقصاص من الضحية، وهذا ما رأيناه من الحكم الشرعي الغريب بحق فتاة القطيف وقصته معروفة للجميع. فكم من فتاة بعد ذلك ستغتصب بصمت، وتكبس الجرح ملحاً، وكم من جريمة قتل تحت يافطة الشرف المبررة سترتكب بحق بريئات وعذراوات فهذه وجه آخر لتلك، وكله يصب في خانة الحيف والضيم الواقع ضد المرأة التي لا تقيم لها الثقافة البدوية أية قيمة أو وزن واعتبار. وكم من فحل بدوي “همشري” سيتمادى في وحشيته وسيتباهى بفحولته وإجرامه ويراكم ضحاياه، لعلمه، أن العدالة البدوية العوراء لن تناله، بل ستصب نفس تلك العدالة جام غضبها ضد الضحية التي لا تملك إلا أن تتساءل في سرها وخلدها بأية شريعة قتلت أو جلدت ؟